
تحقيق خاص – محمد رائد كعكة
في تحول دراماتيكي في ملف اللجوء الهولندي، وجّهت الحكومة الهولندية رسالة غير مباشرة ولكن بالغة الوضوح إلى طالبي اللجوء السوريين: “لم يعد لديكم ما تسعون إليه في هولندا.”
هذه الرسالة، التي تصدّرت تقريراً نشرته صحيفة تراو الهولندية، تعكس سياسة جديدة تشكّل منعطفاً حاداً في موقف أمستردام من اللاجئين السوريين الذين شكلوا على مدى السنوات الماضية واحدة من أكبر الجاليات القادمة من مناطق النزاع.
من الترحيب إلى الرفض: انقلاب في النسب
حتى وقت قريب، كانت هولندا من أكثر الدول الأوروبية ترحيباً بالسوريين، إذ وافقت السلطات العام الماضي على 85% من طلبات اللجوء المقدمة من قبلهم.
أما اليوم، فقد انعكست المعادلة تماماً: 85% من الطلبات تُرفض، بينما تنتظر دائرة الهجرة ما يزيد على 17 ألف طلب لم تُبت فيها بعد، يعيش بعض أصحابها في مراكز الإيواء منذ سنوات.
“عودوا إلى وطنكم… وسنكافئكم بالمال”
تبدو الحكومة الهولندية مصممة على تشجيع السوريين على “العودة الطوعية”، إذ رفعت قيمة مكافأة العودة إلى 5 آلاف يورو للبالغين و2500 يورو للقاصرين.
لكن الشرط الصارم واضح: من يرغب بالاستفادة من هذه المكافأة عليه التنازل عن إقامته أو سحب طلبه إن لم يُبت فيه بعد.
الوزير المنتهية ولايته لشؤون اللجوء والهجرة، ديفيد فان فيل، قال إن المرحلة التي كان السوريون فيها معرضين لـ”خطر جسيم بسبب القمع” قد انتهت بسقوط نظام الأسد، مشيراً إلى أن “سوريا باتت آمنة بما يكفي للعودة”.
قرار محل جدل … والقضاء هو الحكم
المتحدث باسم دائرة الهجرة أوضح أن الأوضاع في سوريا “أصبحت أكثر أماناً لمعظم السوريين”، ولذلك أصبح الحصول على الإقامة “أمراً صعباً وطبيعياً”.
لكن الجدل ما زال قائماً حول ما إذا كان هذا الموقف سيصمد أمام القضاء الهولندي، الذي سيكون صاحب الكلمة الفصل في تحديد ما إذا كانت سوريا تُعد فعلاً “دولة آمنة”.
المنظمات الإنسانية: خطوة سابقة لأوانها
من جهتها، حذّرت مفوضية اللاجئين ومنظمات إنسانية عدة من أن سياسة هولندا الجديدة سابقة لأوانها، معتبرة أن البلاد ترسل “رسالة خاطئة وقاسية” للسوريين.
وتشير منظمة VWN الهولندية المعنية باللاجئين إلى أن ملايين السوريين ما زالوا نازحين داخلياً، وأن مناطق واسعة من البلاد تفتقر إلى الخدمات والبنى التحتية الأساسية، فضلاً عن استمرار العنف المتقطع وعدم الاستقرار.
أرقام تكشف التراجع
منذ مطلع عام 2025، عاد فقط 720 سورياً طوعاً إلى بلادهم، رقم ضئيل مقارنة بنحو 160 ألف سوري يعيشون حالياً في هولندا.
في المقابل، تراجع عدد طلبات اللجوء الجديدة بشكل كبير، بالتزامن مع أزمة سياسية داخلية أدت إلى انهيار الائتلاف اليميني الحاكم والتحضير لانتخابات برلمانية مبكرة، كان ملف اللجوء في قلب خلافاتها.
الترحيل القسري على الطاولة
تقول هيئة الإذاعة الهولندية إن الحكومة المؤقتة تبحث في اتفاقيات ترحيل قسري للسوريين الذين لم يعودوا مؤهلين للإقامة، لا سيما أولئك المتورطين بجرائم أو المثيرين للاضطرابات.
حالياً، تُقبل طلبات اللجوء فقط في حالات استثنائية، مثل المنتمين لمجتمع الميم أو الطائفة العلوية، وهي الفئات التي ترى الحكومة أنها ما تزال معرضة لخطر فعلي في سوريا.
السوريون في هولندا: “نُحب… لكن لا نُقبل بالكامل”
في استطلاع رأي أجرته هيئة الإذاعة والتلفزيون الهولندية وشمل 350 سورياً حصلوا على الجنسية، عبّر المشاركون عن مشاعر متناقضة تجاه واقعهم في البلاد.
“هولندا منحتنا الأمان والكرامة، لكننا لم نعد نشعر بالترحيب ذاته” يقول أحدهم.
فبعد صعود الأحزاب اليمينية، ازدادت النظرة السلبية تجاه اللاجئين، وأصبح خطأ فرد واحد كفيلاً بإطلاق الأحكام على الجميع.
ورغم ذلك، أظهر الاستطلاع أن نصف السوريين المتجنسين يتفهمون تشديد سياسة اللجوء، معتبرين أن هولندا بلد صغير يعاني من أزمات حقيقية في السكن والرعاية الصحية.
بينما يرى آخرون أنهم يُستخدمون ككبش فداء سياسي لمشكلات اقتصادية واجتماعية لا علاقة لهم بها.
أحد المشاركين لخّص المشهد قائلاً:
> “نحن نعمل، ندفع الضرائب، نُسهم في المجتمع… وربما نكون جزءاً من الحل، لا من المشكلة.”
ما بين القبول والرفض… مستقبل غامض
بين سياسة حكومية متشددة ومجتمعٍ منقسم، يعيش السوريون في هولندا حالة من القلق الوجودي: هل سيُطلب منهم يوماً ما أن يعودوا إلى بلدٍ لم يعد كما تركوه؟
السؤال يبقى مفتوحاً، والإجابة رهن بما ستقرره المحاكم والسياسة، وربما التاريخ.



