لغتي هويتي

لغتي هويتي

لغتي هويتي

لكن على ما يبدو أن الأجيال الحاضرة رأياً آخر مخالف لهذا وترى أن الإنكليزية أو الفرنسية هي لغات (رقي واتيكيت) كما يقال لكن إذا ما ترجمتها للواقع هي لغة (التكبر والتباهي) وإظهار أننا على مستوى معين من الثقافة الزائفة وأن العربية أصبحت “موضة قديمة” ومن يستعملها يعتبر متخلف لا يواكب وكب الحضارة الزائفة، وللأسف بعض الشعوب العربية تعتبر اللغة العربية شيء غير حضاري وأن (هاي وباي وميرسي…) هي المفردات (الشيك) التي ينبغي أن نتداولها، حتى بات من يقول “السلام عليكم” ينظر له أحياناً شَزْراً كأنه من كوكب آخر. ولكن هؤلاء المتشدقون لا يعلمون أنهم يتكلفون هذا لما في نفوسهم من طباع أحدثها الخضوع والذل السياسي والاجتماعي بدايتاً من عهود الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والتركي وغيرها، وكرستها ثقافتنا الغربية المستوردة في حياتنا وتعليمنا. أو أنهم يَعمَدون لهذا ويريدون به أن يعيبوا اللغة العربية وتهجينها، وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي أو لقوميتنا العربية. وهناك بعض من يتكلم ببعض الكلمات الأجنبية غفلة منه وجهلا، ولكن هذا من تضليل وتداول وسائل الإعلام للكلمات الأعجمية، وكأن اللغة الإنكليزية التي هي وليدة بضعُ قرون من الزمن والتي تعتبر هجينة وغير ذات نسق وأرضية لغوية وقواعدية سليمة هي أفضل من العربية التي يناهز عمرها ثلاثة آلاف سنة والتي لا يشوبها عيب دوناً عن كافة لغات العالم. فالمتعارف عليه أن المغلوب مولع بالغالب، فهل أصبحنا نحن المغلوبين لهذه لدرجة التي نتنكر فيها لجزء من ذاتنا العربية وأصالتها وقيمنا؟ ومن ناحية أخرى نوجه أصبع اللوم لأنفسنا نحن العرب لأننا سمحنا لهذا الأمر ليصل هذا المبلغ باستهانتنا واستهتارنا بلغتنا وديننا وثقافتنا، لأن اللغة العربية ليست كباقي اللغات الأخرى لأنها مرتبطة بديننا الإسلامي ونكران حتى جزء منها يعتبر عقوق لديننا الحنيف والقرآن الكريم العربي وسنة نبيه العربي.

لم ولن لا نُنكر على الناس استعمال وتعلّم اللغات الأخرى لا بل نحضُّ على تعلمها ولكن كما قال الإمام مالك: “مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام”، لكن أكثر ما يثير حفيظتي هو أننا لو انتقلنا لنعيش في أي دولة أخرى من الدول التي تعيش جنسياتها على أرضنا وترفض تعلم والتكلم بالعربية، وخاطبتهم بأي لغة أخرى لما أجابوك وفرضوا عليك تعلم لغتهم لكي تستطيع أن تعيش أو تتعلمأو ببلدانهم، ولعل من درس وعمل بالخارج على علم تام بهذا الأمر تماماً، حيث أنه لا يمكنك أن تخطو إي خطوة بمجتمعاتهم دون أن تتقن لغتهم قبل متابعة تحصيلك العلمي أو العمل أو الحصول على الجنسية، وفرنسا أحد أبلغ الأمثلة بسياستها في الاستعمار اللغوي بنشر “الفرنسة” والتشجيع عليها بما تسميه الدول (الفرانكفونية) ونشرها عبر حوافز وجوائز سنوية لتشجيع انتشار الفرنسية، فلماذا لا يتم فرض هذا الأمر في دولنا العربية وخاصة الدول الخليجي والمغرب العربي، حيث أنه على كل أجنبي يعيش على أرض هذه الدول، على الأقل أن لا يقبل أي عقد عمل له إلا بشهادة تجيزه التحدث بالعربية وإن بشكل بسيط، وكذلك الأمر بالنسبة للجامعات والمعاهد والمدارس.

ونحن نرحب بأي شخص على أرضنا دائما وأبدا، ولكن هذا لا يعني أن نتخلى عن أحد أهم مكونات هويتنا الأساسية ألا وهي لغتنا لأن ضياعها يعني ضياع هويتنا ومن بعدها ديننا، فكما نحن نحترم قوانينهم في بلادهم عليهم أن يحترموا قوانيننا وعاداتنا ولغتنا. ويجب على الحكومة اتخاذ إجراءات صارمة لوضع حد لهذا التدهور اللغوي المطرد لأننا بعد سنوات سنفقد لغتنا وبالتالي هويتنا المتفردة، ولعل أهم ما يمكن أن يبتدئ به من خلال وزارات العمل بحيث لا يقبل أي عقد عمل لأجنبي إلا مرفق بشهادة تفيد تحدثه اساسيات اللغة العربية حتى وأن أعطي تأشيرة عمل مؤقتة لفترة ستة شهور لحين استكمال الدورة بعد بداية عقد العمل ويتم تثبيت العقد بعدها بشكل دائم بعد التثبت من قدرته اللغوية، وعلى لجان التفتيش الدوري في الوزارة التحدث مع كل الموظفين في المنشآت بالعربية للتأكد من عدم تزوير هذه الشهادات وتفرض عقوبات بحق من يخالفها. وإن كان من الأصل والأنسب توظيف العرب بدلا من كل هؤلاء الأجانب الذين لا ينتمون لديننا وقيمنا ولغتنا.

وعلى الطرف الآخر هنالك الجهات الحكومية المعنية بها الأمر وعلى سبيل المثال البنك المركزي الذي لا يُعلم سبباً لعدم فرضه على البنوك استعمال طلبات وأوراق مطبوعة بالغة العربية فقط، ولعل معظم القراء يدركون أن معظم البنوك حين تتقدم بطلب لقرض أو بطاقة أو فتح حساب أو أي معاملة أخرى تطبع بالإنكليزية وأنت توقع عليها ولا تعلم ما فيها حتى وإن كنت تتكلم الانكليزية لكن ليس من الممكن لشخص عادي فهم المصطلحات القانونية فيها. فلماذا تقبل هذه المستندات بلغة غير لغة الدولة الرسمية؟!، ويضاف لهذا فرض الإنكليزية في أكثر المواقع الالكترونية للبنوك وغيرها بدون أي خيار للغة العربية وقسم كبير من المتعاملين فيها عرب، بلّ ويمتد ذلك للإعلام، فأصبحنا نرى شخصيات سياسية واجتماعية واقتصادية مرموقة تتحدث بالإنكليزية بدلا من لغته الأم العربية، ومع كل صباح تستمع في سيارتك بطريقك للعمل لمذيعين ينطقون كلمتين بالعربية متبوعة بعشرة بالإنكليزية وكأن البريطاني والأميركي هم من مستمعيهم ولا يقيمون بالاً لهؤلاء “المتأنكلزين”، ولكنها (فزلكة إعلامية) فحسب، هذا مع تجاوزنا للأخطاء اللغوية العربية الشنيعة في التقارير التي يقدموها والتي لا تمت للعربية إلا بحروفها ضاربين عرض الحائط بكل القواعد اللغوية، فكيف سيحترمنا الغرب إذا كنا نتذلل لهم بلغتهم متجاهلين لغتنا.

لغتي هويتي

ويلوح الخطر الأكبر في القطاع التعليمي حيث باتت العربية مُغيّبة خاصة في المدارس الخاصة وأصبح الطالب يتخرج ولا يستطيع كتابة موضوع بالعربية على عكس الانكليزية أو غيرها من اللغات، والدراسة التي قامت بها وزارة التعليم في الإمارات تظهر بأن اللغة العربية هي أضعف المواد في المناهج، قال الإمام ابن تيميّة رحمه الله: “معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السّلف يؤدّبون أولادهم على الّلحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الّناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً”، ويرجع لوزارات التعليم التي تراقب وتضع المناهج أولاً، وأولياء الأمور ثانياً الذين باتوا يظنون أن اللغات الأخرى ذات أهمية اكبر ويدرجون أبناهم في مدارس تعتني باللغات الأخرى متناسين فرض وجوب تعلم العربية لأنها لغة الدين والدولة. فلماذا هذا التجاهل كله للعربية؟، هل أصبح من المعيب استعمال العربية أم ماذا؟!

إن للغة التي يتحدث بها الشخص تأثيرا على شخصيته، وهذا واقع محسوس فالذين يتبجحون باللغات الأجنبية دونَ داعٍ، هم في الحقيقة متزعزعي الثقة داخلياً لأن من لا يملك الإيمان بعقيدته وقوميته ويترجّاها في الآخرين هو كالغراب الذي يحاول أن يمشي كالطاووس ولكن في النهاية هو لن يصبح كالطاووس وبنفس الوقت لن يعود غراباً مرة أخرى لأنه نسي أصوله من كثرة تقليده ولهاثه وراء ما بيد غيره. وكما نبهنا سيدنا عمر بن الخطاب قائلاً: ”إياكم ورطانة الأعاجم”، وعالم اللغويات الغربي “بينيكوك”، الذي أظهر في أكثر من بحث، أقام فيه الدليل الحسي الاجتماعي على الرغبة الغربية المقصودة في “عولمة” الانجليزية، استلاباً لعقول الناشئة، وصرفاً لهم عن الدلالات العميقة التي تحملها لغاتهم الأم. لذا فهي مرتبطة بأهم جوانب الطبيعة البشرية ولا مناص من تأثير اللغة في طبع متكلمها. فخطاب من لا يعرف العربية أحياناً باللغة التي يفهمها هو لا بأس به، وليس فيه إشكال، قد صح هذا الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كوننا يغزونا هؤلاء القوم بثقافتهم ولغتهم، ثم نستعجم نحن ويأبوا هم أن يستعربوا،

الصحيح أن غير العربي يجب أن يخاطب الغير بالعربية حصرً حتى يتعلم من تتحدث إليه أنه لا مناص من التحدث بالعربية، لكن مع الأسف الآن نخشى على أنفسنا أن نكون نحن الأعاجم لأن اغلب أولادنا إذا ما وضعت كتابا عربياً بين أيدهم لا يستطيعون فهمه بالكامل ولا يستطيعون حتى كتابة أو قراءة صفحة بدون عدة أخطاء لغوية فادحة في قواعد بسيطة، وأصبحت معظم قرآتهم وكتاباتهم بلغة غير لغته الأم، نحن لا نتطلع لعالم جِهْبذُ في اللغة العربية بل أن يكون يدرك لغته ولغة دينه ليتواصل معها ويستطيع بالتالي إيصالها لأولاده من بعده، لكن على ما يبدو أن هذه الحبائل التي بنيت منذ أجيال باتت تتقطع الواحد تلو الآخر لأننا على هذه الوتيرة بعد عدة أجيال سنجد من أحفادنا من لا يتحدث العربية ويفهم كتاب الله وسنة نبيه.

والأدهى والأمرّ انتشار تسمية أبنائنا بأسماء غير العربية على أساس أنها “على الموضة” وأسمائنا العربية ذات المعاني العميقة أصبحت بالية ومتخلفة ومن المعيب أن نستعملها، فقد ورد عن الشافعي كرهه لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالأعجمية. والآن هناك من الناس من يسمون بأسماء الأعاجم، وكذلك يسمون بأسماء مرتبطة بالديانات الأخرى، وقد يكون الاسم معناه قبيحاً وفيه شرك أو كفر ويسمون به حتى دون أن يدركوا معناه، وصدق الصادق الأمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخرجه البخاري: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟).

نحن لا نريد أن نرى أي موظف أو عامل لا يتكلم العربية خاصة في الأماكن المفصلية في حياتنا أو أي مكان يتواصل به الأشخاص في الجهات الحكومية والعامة والخاصة، وأن تكون الإنكليزية هي الخيار الثاني الإضافي وليست الأساسي كما هو واقع الحال. وأن كان للأسف حتى بعض الجهات الحكومية تتعامل بالإنكليزية كلغة أساسية، فمثلا لوحات السيارات تصنف بنظام الأحرف الإنكليزية وكأن الأحرف العربية لا تكفي للتصنيف، والهيئات الحكومية تسمح بتسميات إنكليزية بدون تعريب لأسماء الرخص التجارية، وحتى إن ترجمتها فتترجم بنفس اللفظ الإنكليزي لتكون كالذي فسر الماء بالماء، لا بل إن بعضها لأسماء مشركين وتشير لأسماء آلهة، فضلا عن بعض المواد الغذائية التي تعرض في المتاجر بدون أي وصف باللغة العربية عليها.

ما يثير الضحك لا بل السخرية الأغاني العربية التي تنتهي بشارة وأسماء مكتوبة بالإنكليزية وكأن من في الغرب هم من يشاهدونها وهم بالحقيقة لا يعلمون عن هذا المطرب شيئاّ وإن كان من كبار المطربين لا من قريب ولا من بعيد ولا يقيمون له بالاً ولا بأغانيه. وهناك الكثير من التجاوزات في هذا المضمار لا يسعنا تداركها كلها لأنها أكثر من أن تحصى.

مسؤوليتنا نحن العامة الذين نعيش على أرض دولنا العربية، علينا أن نقوم بحملة ضد هذه الظاهرة، وهي بسيطة ولكن بالتأكيد ستعطي فعالية كبيرة وستغير أسلوب حياتنا، فلو أن كل متصل عربي مع أي شركة أو بنك أو جهة حكومية كانت أم خاصة، عند مخاطبة أي موظف معه بلغة غير العربية رفض التحدث إلا بالعربية لاضطرت تلك الشركات لتوظيف شخص يتكلم العربية، وكذلك الحال في الحياة اليومية أو في أي مكان نذهب إليه، بحيث نرفض توقيع أي ورقة رسمية بغير العربية، فالتغيير يبدأ من أنفسنا نحن لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فأن لم نبدأ بأنفسنا لن نتقدم أبداً. فنحن الآن نقتل اللغة العربية في بلاد العرب المسلمين بإشاعتنا اللغات الأجنبية وتفضيلها في كافة مجالات حياتنا.

بقلم سام تاج الدين
زر الذهاب إلى الأعلى