دبي، معجزة الحضارة وأصالة التاريخ
متحف المستقبل
بقلم سام تاج الدين
في هذه السلسلة سنتناول مقالات عن إمارة دبي تشمل عموم النواحي الحضارية والتاريخية والثقافية ونهضتها العمرانية ولنخوض في شِعاب روحها وأزقتها على مختلف الصُعد لنعايش قصة تَحدي وفِكر وإِنجاز في سباق التميز.
متحف المستقبل، فكرة طموحة نبتت لتصبح مشروع يحتضن العقول ويستشرف المستقبل
متحف المستقبل
تسارعت التطورات في العقدين الأخيرين لتعكس متغيرات جذرية على كافة الصعد الأمر الذي أثر على كافة جوانب حياتنا اليومية وطرائق تعاملنا مع أي مهام اعتيادية كانت أو طارئة بشكل نوعي وكمي، فماهي التغيرات التي يتوقَّع أن يشهدها العالم في العقود القادمة.
الأثر الضخم للتكنولوجيا أحدث أنماط كيفية وكمية في أسلوب وطرائق حياتنا، اجتماعياً، بيئياً، ثقافياً، سياسياً وغيرها، ومتحف المستقبل ينقل الزائر للمحة ونظرة مستقبلية عمَا يمكن أن جزء من حياتنا اليومية في العقود القادمة عبر تطور سينعكس على رفاهية وراحة الإنسان وارتقائه الاجتماعي والعلمي المعاشي.
يتبنى المتحف ثقافة استشراف المستقبل التي حوّلت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إحدى أكثر دول العالم تقدماً في أقل من 50 عاماً. إنه رمزٌ وأنموذج لروح التفاؤل والابتكار البنّاء التي تدفع دبي على معارج الارتقاء الحضاري والإنساني.
المبنى
صُمم المبنى ليكون أعجوبة معمارية وهندسية تصل الماضي بالمستقبل، ويغير مفهوم المتاحف التقليدية باستخدامه أحدث التقنيات المبتكرة، فقد شيّد هذا الصّرح بالاعتماد على تقنيّات التّصميم البارومتري والخوارزميّات الحاسوبيّة، تصميمٌ مستقبلي يعكس المبنى مفهوماً جديداً مختلفاً عن المباني الشاهقة في معظم حواضر العالم. بناءٌ رمزي، يرمز شكله شبه الدائري إلى الترابط الإنساني، والتلّة الخضراء التي يعتليها تمثل ارتباط الإنسان بالأرض، ويحاكي الفراغ الذي يتوسطه المستقبل الواعد الذي نتطلع إليه.
التلّة الخضراء التي بني عليها المتحف تحتضن تنوّع غني من الأشجار والنّباتات، تضمّ أنواعاً من الأشجار المحلية، مثل: الغاف، والسّدر، والنخيل، والقرط، تدار بنظام ريّ ذكي وفعّال بمنهجيّة مستدامة للحفاظ على الغطاء النباتي تتماهى مع محيط المتحف.
يباهي المبنى بواجهته الفريدة باللغة العربية التي تعكس أثر الحضارة الذهبية للعرب، وتم استعمال تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في بناء هذه الواجهة وهي تسمح بتمرير الضوء الطبيعي لإنارة المبنى، وتحمل مقولات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المنقوشة بخط صممه الفنان مطر بن لاحج. جميع الكلمات المكتوبة على المتحف مقتبسة من أقوال سمو الشيخ محمد بن راشد وهي:
– لن نعيش مئات السنين، ولكن يمكن أن نبدع شيئاً يستمر لمئات السنين.
– المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيله وتصميمه وتنفيذه، المستقبل لا يُنتظر، المستقبل يُمكن تصميمه وبناؤه اليوم.
– سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الابتكار.
صُنّعت واجهة متحف المستقبل من الفولاذ المقاوم للصدأ، وتتكوّن من 1,024 قطعة تم تصنيعها عبر عملية خاصة بمساعدة الروبوتات، وتغطّي مساحة إجماليّة قدرها 17,600م2. يبلغ ارتفاع المبنى 77 متر/225 قدم، ويشغل مساحة إجماليّة تبلغ 30,548م2.
لا يحوي المتحف على أعمدة داخلية على غرار المباني التقليدية، واختارت ناشيونال جيوغرافيك متحف دبي للمستقبل كأحد أجمل المباني في العالم، بالإضافة إلى حصوله على جائزة “تكلا” العالمية لكونه أعجوبة معمارية أيقونة رائعة ومميزة.
صُمّم متحف المستقبل من قبل شركة “كيلا ديزاين” وأشرفت شركة “بيرو هابولد” للاستشارات الهندسيّة على بنائه. وافتتح في 22/02/2022.
الطوابق والمعروضات
يعرض المتحف معروضاته بأسلوب غير تقليدي تفاعلي بدون حواجز وتجارب ممتعة، يتنقل عبرها الزائر في كل طابق في عوالم مستقبلية تنقلهم لآفاق مستقبل مبهر تشطط أقصى خيالتهم ليكوّن بوابة لعالم الغد.
يتنقل المبنى بالزائر عبر كل طابق لعوالم شغف الاستكشاف، يبتدئها عبر عوالم الفضاء وآفاق سياحة استكشاف مجهولاته، فرحلتك تبتدأ بالانطلاق عبر المكوك الفضائي إلى المحطة الفضائية المدارية “أمل” على ارتفاع 600 كم في الفضاء، في مغامرةٍ خياليّةٍ نحو محطّة فضائيّة مداريّة تعكّس تصوّر المتحف لمستقبل الحياة البشريّة في الفضاء، ستستجلي محطة الفضاء وتتعرف على مجتمع الروّاد الأوائل الذين سيعيشون ويعملون هناك. وتعايش المهام التي ينفّذونها، وتتعرّف على ابتكاراتهم، وتستلهم الأفكار التي تعزز استدامة كوكبنا والحفاظ عليه.
محاكي محطّة الفضاء هذا طوّرته شركة “ساب” بالشّراكة مع المتحف، يقدّم هذا المحاكي سيناريوهات متنوّعة لما قد يحدث على متن المحطّة الفضائيّة تستخدم الطّاقة الشّمسيّة لتزويد الأرض بالطّاقة بحلول عام 2071، بمساعدة الذّكاء الاصطناعي، سلسلة من التّحدّيات في شكل لعبة تفاعليّة، تهدف إلى تعزيز الوعي بأهميّة الحلول المُبتكرة للتّقليل من الانبعاثات والنّفايات وتحقيق المساواة في الفرص، لتحقيق رؤية مستدامة.
ومنّ ثمَّ ننتقل لأحضان الطبيعة عبر رحلة رقمية إلى غابة الأمازون، هذه التجربة التي تعيد إحياء أدغال الأمازون المطيرة. وإعادة خلق التفاعل بين الكائنات، ورصد التفاصيل الدقيقة التي تصعب رؤيتها بالعين المجردة. لإعادة مزاوجة الإنسان بالطبيعة على مختلف الأصعدة.
تنقل هذه المنطقة تصوراً رقمياً دقيقاً لجزء حقيقي من غابات الأمازون في “ليتيسيا” بكولومبيا، والذي يُجسد النظام الحيوي والبيئي للمنطقة بدقة وواقعية بالغة، وعمل فريق المتحف من العلماء والمصممين والمبدعين على تسجيل أصوات الحياة البرية في غابات الأمازون للأنواع المحلية من الطيور والنحل وغيرها.
ثمّ نَدلف إلى مكتبة الحياة التي تشتمل على الحمض النووي للآلاف من الكائنات، ولندرك عجائب الطبيعة للمساهمة في إعادة تأهيلها. ولنتعرف على كائنات جديدة ونكون أفراد فعّالين في الجهود العالمية لاستدراك تبعات التغيّر المناخي المتعاظم باضطراد.
سافر بعدها بعيداً عن الحياة الرقمية عبر استكشف مركز الحواس البشرية حيث ستنفصل عن التكنولوجيا لتعيد ارتباطك بعقلك وجسدك ومشاعرك. عبر منظور جديد لذاتكم والراحة وتجديد نشاطكم من خلال الحركة والتأمل والماء. انغمس في الذبذبات التي تعيد التوازن إلى الموجات الكهرومغناطيسية المحيطة وتجديد إيقاعانا الطبيعي. أولج تحت قبة من الضوء والماء، وتخيل الامكانيات اللامتناهية للمستقبل.
يتوسط الواحة نافورة مياه من الرخام الفاخر، تضفي أجواء من الصفاء والسكينة بإطلاق العبير الفوّاح لزهرة “الشرشير” من التراث البيئي الإماراتي، هذه الزهرة تتميز بتفردها على النمو والتفتح في ظروف الصحراء القاسية، الأمر الذي نجده عبر سردها في قصص الشجاعة والصبر والأمل في التراث الشعبي الإماراتي، كما تتمتع بخواص طبية علاجية وقدرة على دعم الجهاز المناعي في الجسم لتحقيق التوازن الصحي.
ستستدرك في طابق “مستقبلنا اليوم” أحدث الابتكارات التي يمكن أن تغيّر عالمنا حيث يتلاقى الزائر بالمستقبل وجهاً لوجه، فشركة “أودي” تعرض نموذج سيّارة “Urbansphere” ذاتيّة القيادة، إذ تمّ تصميم هذه السّيّارة خصوصاً لتناسب احتياجات المدن الكبرى وظروفها المروريّة المعقّدة، ممّا يعكس مدى الابتكار في عالم التّنقّل. كما تًعرض بدلة فضائيّة معدومة الجاذبيّة، في دلالة على التزام المتحف بتقديم أحدث الابتكارات في مجالات التّصميم والتّكنولوجيا. والكثير من المعروضات التي تٌعرض بالتعاون مع شركاء من القطاعين العام والخاص حول العالم، تسلط الضوء على أساليب استجابة المصممين والباحثين والشركات في يومنا هذا لأكثر التحديات إلحاحاً في مستقبل البشرية.
أبطال المستقبل، هو عالم من الخيال للأطفال يُركّز على مهارات المستقبل. صُمّم ليكون مساحة مخصصة للأطفال تُشجّعهم على تطوير مهارات مستقبلية مفيدة ومسليّة في عالم مفتوح للاستكشاف واللعب.
يتكون الطابق من ثلاثة أقسام هي مختبر التخيّل ومختبر التصميم ومختبر البناء حيث يستمتع الأطفال باللعب والتعلم من خلال الأنشطة التي تشجع على التواصل وتُنمّي روح التعاون والإبداع.
قد يُستدعى أبطال المستقبل في أي لحظة للمشاركة في مهام عاجلة تتضمّن تحديات عليهم تخطّيها في وقت محدود. وتُنفَّذ هذه المهام العاجلة بإشراف مدرّبي أبطال المستقبل الخبراء في المتحف، وتُشجّع الأطفال على التعاون لتحقيق هدف مشترك.
استوحى طابق “أبطال المستقبل” أنشطته من نخبة الأفكار والمفاهيم التي تقوم عليها الألعاب الإلكترونية ليستمتع بها الأطفال في العالم الحقيقي. فكل طفل هو لاعب مهمته استكشاف ميادين وأنشطة جديدة وخوض التحديات وجمع المكافآت. صُممت الألعاب لتشجيع التفكير المبدع وتعزيز الشجاعة والثقة بالنفس. ويُكافئ الأطفال على هذه السمات بمنحهم شارات رمزية تكريماً لمساهماتهم الإيجابية في عالم أبطال المستقبل مثل تقديم المساعدة أو حل المشكلات أو الابتكار أو المشاركة في تجارب غير مسبوقة.
كما هي دبي، سيصوغ متحف المستقبل رمزً للتسامح والتعايش مستقطبً مختلف مقاصد الإنسان الثقافية والفلسفية والاجتماعية والعلمية. فمستقبلنا كما نتخيّله، سيكون متجذراً في قيم دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم العربي الذي انبثق منذ قرون متطاولة في التاريخ أسست لحضارات العالم كافة، واليوم نستكمل رحلة أجدادنا لمستقبل واعد للإنسانية جمعاء عبر تسليط الضوء على واقعنا لنسخره لتنمية معارفنا وخدمة مجتمعاتنا.
سيعزز المتحف معروضاته وأفكاره بشكل مستدام، بأحدث الإنجازات التقنية وآخر الاكتشافات العلمية، ليواكب آخر العلوم. وسيشكل مختبراً لتقنيات وأفكار ومدن المستقبل، عبر الاستثمار في الإبداع الإنساني ودعم المفاهيم والمشاريع والمبادرات والأبحاث التي تضيف قيمة نوعية للإنسانية.
كل ما سَتعرِضون له في المتحف من إبداعات وكلّ ما تعايشونه من تجارب سيلهمكم ويًفتّح أمامكم آفاق مًستحدثة تفوق تصوراتكم. وقام على صناعة هذا المحتوى فريقٌ من المبدعين والخبراء العالميين في تصميم المنتجات والوسائط والمعارض والتجارب التفاعلية.
فاز المتحف بالشّهادة البلاتينيّة من نظام الرّيادة في الطّاقة والتّصميم البيئي، إذ يتميّز المبنى بتطبيقه لأحدث الوسائل البيئيّة المستدامة في أنظمة توزيعِ الماء والعزل الحراري والتّبريد، ويعدّ هذا التزاماً واضحاً من المتحف بتعزيز معايير الأبنية الخضراء، متماشيّاً مع الجهود العالميّة لتعزيز الممارسات المستدامة.
أكثر من 30% من احتياجات المتحف يجري توليدها بوساطة الطاقة الشمسية، وتستخدم مصابيح LED الموفّرة للطاقة في كافة أرجاء المبنى، فضلاً عن تصنيع كامل السطح الخارجي للمبنى من زجاج مطوّر خصيصاً بالاعتماد على تقنيات مبتكرة لتحسين العزل الحراري.
علاوةً على القيمة السياحية والثقافية والعلمية التي يقدمها المتحف، فإنه سيكون محطة رئيسية لاستضافة المؤتمرات التقنية والعلمية الدولية والجلسات الحوارية الإبداعية، حيث تم تنظيم عدة فعاليات علمية في المتحف تحت إشراف مؤسسة دبي للمستقبل، من ضمنها أسبوع مستقبل المناخ، وأسبوع الفضاء العالمي، وورشة فنون الخط العربي وغيرها الكثير.
متحف المستقبل هو إحدى مبادرات مؤسسة دبي للمستقبل، تأسست المؤسسة عام 2016 انطلاقاً من رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، لتحويل صناعة المستقبل إلى عمل مؤسسي ممنهج.
استشراف مستقبل دبي وتصميمه وتنفيذه هو جوهر عمل المؤسّسة التي تتبنى مجموعة من القيم أساسها المبادرة والمرونة، وتقوم المؤسّسة على مبدأ أساسي هو بعدم الاكتفاء بريادة الحاضر، بل يجب أن نتخيل المستقبل ونخططه وننفذه.
هذه المقالة مأخوذة من كتابي قيد الإنجاز الذي يسرد لنهضة هذه الدولة العظيمة بشأنها وإن صغرت مساحتها.