أحمد بن فضلان… سفير بغداد الذي عرّى همجية الشمال

بقلم : محمد رائد كعكة

في زمنٍ كانت فيه بغداد تنبض بالحضارة والعلم، وتسطع كنجمةٍ في سماء الدنيا، خرج رجل يحمل رسالة الإسلام والعقل، ليغوص في عوالم لم يعرفها العرب من قبل. عبر الصحارى والأنهار والثلوج، قطع المسافات ليصل إلى أقاصي الأرض. ذلك الرجل هو أحمد بن فضلان، الرحالة والدبلوماسي الذي دوّن واحدة من أكثر الرحلات إثارة في التاريخ الإسلامي.

من بغداد تبدأ الحكاية

وُلد أحمد بن فضلان في قلب بغداد العباسية، المدينة التي كانت آنذاك منارة للعلم والفكر والفقه. لم تذكر المصادر الكثير عن طفولته، لكن ما وصلنا من كتاباته يكشف عن رجل واسع الثقافة، فصيح اللسان، متبحّر في الدين واللغة. كان من رجال الدولة المقربين، يتمتع بثقة القصر العباسي، وهذا ما أهّله لمهمة تاريخية ستخلّد اسمه إلى الأبد.

السفير الذي عبر العالم

في عام 309هـ / 921م، كلّفه الخليفة المقتدر بالله برئاسة بعثة إلى ملك الصقالبة، استجابة لطلبه إرسال من يعلّمه الإسلام ويقيم له المساجد ويشرح له الشرع.

خرج ابن فضلان من بغداد، عابراً خراسان وبلاد الترك، ثم بلاد البلغار، حتى وصل إلى ضفاف نهر الفولغا شمالاً، حيث تبدأ أراضي الروس والفايكنغ.

كانت تلك الرحلة ملحمة جغرافية وإنسانية، خاضها وسط الثلوج والبرد القارس، حاملاً في قلبه نور الحضارة الإسلامية إلى شعوب لم تعرف سوى القوة والغزو.

الرحّالة الأسير بين الفايكنغ

لكن القدر خبّأ له فصلاً أكثر درامية.

فبينما كان في طريقه إلى الصقالبة، وقع ابن فضلان في أسر جماعة من الفايكنغ، أولئك المحاربين الشرسين الذين جابوا البحار ونهبوا السواحل. وجد نفسه بين قومٍ يختلفون عن كل ما عرفه من قبل: عادات غريبة، وطقوس جنائزية مرعبة، وروح حياة بدائية.

ورغم خوفه، لم يتوقف عن الملاحظة والتدوين. سجّل كل ما رآه بعين الباحث لا الأسير، ودوّن بدقة تفاصيل حياتهم، من لباسهم إلى طعامهم وحتى طقوسهم في الموت.

وقد وصف مشهداً مروّعاً لدفن أحد زعمائهم، تُحرَق فيه الجثة مع جارية تُقتل لترافقه في “الآخرة”. كتب ابن فضلان قائلاً:

“رأيت أمراً لم ترَ عين مثله، ولا يُحتمل وصفه من فظاعته.”

رسالة فضحت همجية الشمال

ما دوّنه ابن فضلان لم يكن مجرد ملاحظات رحالة، بل كان كشفاً صريحاً عن الهوة بين حضارة الإسلام ورجعية الشمال.

فقد وصف الفايكنغ بأنهم “أقذر خلق الله”، لا يغتسلون ولا يعرفون الطهارة، يعيشون وسط الأوساخ ويفتخرون بالقوة لا بالعقل. كانت رسالته بمثابة مرآة مؤلمة لأوروبا في عصر الظلام، حين كان المسلمون يشيّدون الجامعات والمستشفيات ويخطّون العلم على الورق، بينما يعبد الفايكنغ الأصنام ويقدّمون البشر قرابين.

لقد كتب الحقيقة كما هي، دون تزويق أو خوف، فكانت رسالته وثيقة صادمة للعالم القديم، ومرجعاً تاريخياً لا يُقدّر بثمن اليوم.

مؤلفات أُريد لها أن تُنسى

لكن كما هو حال كثير من العقول الكبيرة، لم تسلم آثار ابن فضلان من النسيان المتعمد.

ضاعت رحلته قروناً طويلة، ولم يُعثر على نصها الكامل إلا في القرن العشرين، حين اكتُشف مخطوطها في مكتبة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً).

ويعتقد بعض الباحثين أن محاولات تغييبها لم تكن بريئة، إذ تضمّنت وصفاً صريحاً لهمجية شعوب الشمال التي صارت لاحقاً نواة أوروبا الحديثة، فكان في نشرها ما يحرج التاريخ الغربي.

ومع ذلك، عادت رحلة ابن فضلان إلى الواجهة بقوة بعد نشر مخطوطاته، لتصبح مصدر إلهام لعدد من الدراسات والروايات الحديثة، حتى إن الأدب الغربي استلهم منها أعمالاً مثل رواية “الآكلون الأموات” للكاتب الأمريكي مايكل كرايتون، التي صُورت في فيلم شهير بعنوان “المحارب الثالث عشر” (The 13th Warrior) بطولة النجم أنطونيو بانديراس، حيث جسّد شخصية ابن فضلان في مغامرة ملحمية تمزج بين الخيال والتاريخ.

رحلة تتحوّل إلى دراما: “سقف العالم”

ولم تتوقف آثار رحلة ابن فضلان عند حدود التاريخ، بل امتدت لتُلهم الفن العربي المعاصر. ففي عام 2007، قدّم المخرج السوري نجدت أنزور عملاً دراميًا بعنوان “سقف العالم”، مستوحًى من رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الشمال.

جاء المسلسل في فترة تصاعدت فيها الإساءات الأوروبية إلى الإسلام، فكان ردًا دراميًا فنيًا جريئًا يعيد الاعتبار لصورة المسلم كرسول حضارة ومعرفة، لا كما يحاول الغرب تصويره.

تناول أنزور في العمل رحلة ابن فضلان بوصفها صدامًا حضاريًا بين النور الإسلامي والعتمة الأوروبية، كاشفًا عن بدائية المجتمعات الإسكندنافية القديمة، ومُبرزًا التفوق الإنساني والأخلاقي للحضارة الإسلامية آنذاك.

وهكذا تحوّل التاريخ إلى دراما، والرحلة القديمة إلى رسالة معاصرة ضد تشويه الإسلام وإلى تذكيرٍ بأن الكلمة والقيم أقوى من الصورة المشوهة التي يرسمها الآخرون.

نهاية الرحلة وبداية الخلود

عاد ابن فضلان إلى أرض الإسلام بعد رحلة غيّرت نظرته للعالم، وربما للإنسان نفسه. لم تُسعفه الحياة ليشهد أثر كتابه، إذ يُعتقد أنه توفي في منتصف القرن الرابع الهجري (نحو 950م)، بهدوء يشبه تواضع العلماء الذين لا يسعون إلى مجدٍ شخصي، بل إلى خدمة الحقيقة.

السفير الذي سبق زمنه

رحلة أحمد بن فضلان ليست مجرد مغامرة في الجليد، بل رحلة حضارة إلى أعماق الجهل.

من بغداد إلى الفولغا، ومن المساجد إلى معابد الأصنام، حمل هذا الرجل رسالة الإسلام والإنسانية، وكشف بجرأة عالماً يعيش على هامش النور.

واليوم، وبعد أكثر من ألف عام، ما زالت كلماته تذكّرنا بأن الحضارة ليست في السلاح ولا في الثروة، بل في الوعي والعقل واحترام الإنسان.

المراجع والمصادر :

1. Ibn Fadlan and the Land of Darkness: Arab Travellers in the Far North، ترجمة Paul Lunde و Caroline E. M. Stone – Penguin Classics (2011).

2. Ibn Fadlan’s Journey to Russia، ترجمة Richard N. Frye – Markus Wiener (2005).

3. مقال: Among the Norse Tribes: The Remarkable Account of Ibn Fadlan – مجلة Aramco World.

4. موقع Muslim Heritage – سيرة أحمد بن فضلان.

5. ويكيبيديا (الإنجليزية): Ahmad ibn Fadlan – Ridawiya Library MS 5229.

الصورة الاولى المرفقة هي صفحة من مخطوطة MS 5229 التي تحتوي على نص رسالة أحمد بن فضلان – مكتبة رضوية، مشهد (إيران).

الصورة الثانية المرفقة هي مشهد من لوحة تخيلية لحياة الفايكينغ كما وصفها احمد بن فضلان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى