
قراءة نقدية في التاريخ ومحاولات التوظيف السياسي المعاصر
بقلم: محمد رائد كعكة
لم تتوقف محاولات تلميع صورة الدولة العثمانية وإعادة تقديمها كرمزٍ للنهضة الإسلامية منذ سقوطها قبل أكثر من قرن.
لكن هذا التوجه لم يعد مجرد حنينٍ للتاريخ، بل تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مشروعٍ أيديولوجي وسياسي تقوده جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، التي تتبنى رواية “العثمانية الجديدة” وتُسوّقها كامتدادٍ للخلافة الإسلامية في مواجهة الغرب والعالم العربي معًا.
الحروب العثمانية: توسع سلطاني لا فتوحات إسلامية
إنّ مراجعة دقيقة لتاريخ الحروب العثمانية في أوروبا وروسيا تكشف أنها لم تكن “فتوحات” بالمعنى الإسلامي للكلمة، بل حروب توسعية هدفها تعزيز نفوذ السلطنة ومجد السلاطين، لا نشر الإسلام أو الدفاع عنه.
فالسلاطين العثمانيون لم يُعرفوا بتمسكهم بلقب “خليفة المسلمين”، بل تفاخروا بلقب “سلطان آل عثمان”، وهو ما يثبت أن فكرة الخلافة لم تكن سوى غطاء سياسي يُستحضر عند الحاجة لتبرير الحروب أو إخضاع الشعوب.
على النقيض من ذلك، تركت الفتوحات الأموية والعباسية إرثًا روحيًا وثقافيًا عميقًا في آسيا وإفريقيا، إذ ظلّت تلك الأراضي بعد زوال الحكم الأموي والعباسي تدين بالإسلام، بل وأصبحت لاحقًا دولًا إسلامية كبرى مثل باكستان وإيران وبنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا.
أما الأراضي التي خضعت للحكم العثماني في شرق أوروبا، فقد عادت جميعها تقريبًا إلى هويتها المسيحية بعد سقوط السلطنة، مثل رومانيا وبلغاريا ودول البلقان وأوكرانيا وصولًا إلى شرق النمسا.
هذه المفارقة التاريخية تعكس بوضوح الفرق بين الفتوحات الإسلامية التي نشرت الإيمان، والاحتلال العثماني الذي نشر الكراهية.
الجيش الإنكشاري: أداة القهر باسم الدين
كان الجيش الإنكشاري العثماني — الذي يُقدّم أحيانًا كرمزٍ للقوة والانضباط — في حقيقته آلة بطشٍ وهمجية اعتمدت على الغزو والسلب والنهب وسبي النساء وإرهاب السكان المحليين.
لم يكن هدفه الدعوة إلى الإسلام، بل فرض سلطة السلطان وإشباع طموحات الدولة العثمانية في التوسع والسيطرة.
ولذلك، ليس من المستغرب أن تحمل شعوب شرق أوروبا حتى اليوم مشاعر عداءٍ عميقة تجاه كل ما هو إسلامي، إذ ارتبط الإسلام في ذاكرتهم التاريخية بمجازر الجيش الإنكشاري واحتلاله الوحشي.
وفي المقابل، نجد أن الشعوب غير المسلمة في الشرق الأقصى — مثل الفلبين أو سريلانكا — لا تحمل مثل هذه الكراهية، لأن الإسلام دخل بلدانهم عبر الدعوة والتجارة والأخلاق، لا بحد السيف.
العثمانية الجديدة: مشروع سياسي برعاية الإخوان
ما يزيد خطورة هذا الإرث هو محاولات جماعة الإخوان المسلمين اليوم إعادة إنتاجه وترويجه بوصفه “الزمن الذهبي للإسلام”.
تسعى الجماعة إلى توظيف التاريخ العثماني في خطابها الدعوي والسياسي، لتبرير مشروعها العابر للحدود، وتقديمه كبديلٍ عن الأنظمة الوطنية في العالم العربي.
وفي هذا السياق، يأتي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره أبرز من تبنّى هذا النهج؛ إذ يسعى لتقديم نفسه بوصفه وريث الخلافة العثمانية و”حامي المسلمين”، مستخدمًا نفس الأدوات العاطفية التي استخدمها أسلافه من السلاطين.
تُسخّر أنقرة عبر إعلامها الرسمي والحزبي خطابًا يقوم على استثارة المشاعر الدينية واستغلال حنين المسلمين إلى الخلافة، لتكريس نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، من سوريا إلى ليبيا وحتى في بعض الدول الإفريقية.
وللأسف، تجد هذه الدعاية صدى واسعًا لدى بعض الشعوب العربية التي يُغرّر بها باسم الدين والعاطفة، فيتحول الإيمان الصادق إلى وسيلةٍ سياسية بيد جماعات الإسلام السياسي، تُتاجر بآلام الأمة وتستغل مشاعرها لتحقيق مكاسب حزبية ومصالح إقليمية.
إنّ محاولات إعادة تلميع التاريخ العثماني لا يمكن أن تمحو من ذاكرة الشعوب ما تركه من خرابٍ واستبدادٍ ودماء.
فالإسلام الحقيقي الذي انتشر بالعدل والتسامح لا يحتاج إلى سلطانٍ أو جيشٍ أو شعاراتٍ براقة كي يعيش في قلوب الناس.
وإذا كان من درسٍ يجب أن نستخلصه من التاريخ، فهو أن الاتجار بالعواطف الدينية أخطر من الطغيان ذاته، لأنه يبرر القهر باسم الإيمان، ويعيد إنتاج الاستبداد في ثوبٍ مقدّس.




