
الصحفي : محمد رائد كعكة
تزداد تعقيدات المشهد الأوكراني يومًا بعد يوم، سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الدبلوماسي، في ظل تحولات متسارعة داخل ساحات القتال، وتباينات واضحة في المواقف الدولية، وظهور مبادرة أميركية جديدة تُعيد رسم حدود النقاش حول مستقبل أوكرانيا. هذه التطورات مجتمعة تدفع نحو طرح سؤال مركزي: هل أصبح مسار الحرب يقترب من نقطة حسم، أم أن ما نراه مجرد إعادة ترتيب لقواعد اللعبة قبل مرحلة جديدة من التصعيد؟
خطة ترامب: محاولة لإعادة ضبط الإطار الجيوسياسي
المبادرة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تضم 28 بندًا، ما يجعلها أشبه بإطار شامل لتسوية سياسية وليس مجرد اتفاق لوقف النار. بعض بنودها يحمل طابعًا تقنيًا، بينما يشير بعضها الآخر إلى رغبة في إعادة ترسيم الوضع الجيوسياسي داخل أوكرانيا.
أبرز البنود تشمل:
- الاعتراف بالقرم ودونيتسك ولوغانسك كمناطق تخضع للسيطرة الروسية بحكم الأمر الواقع.
- تنظيم انتخابات أوكرانية خلال 100 يوم بهدف تجديد الشرعية السياسية.
- عفو عام لجميع أطراف النزاع.
- إنشاء مجلس سلام برئاسة ترامب للإشراف على تنفيذ الاتفاق.
- اتفاقات عدم اعتداء بين روسيا وأوكرانيا ودول أوروبا.
- إطلاق حوار مباشر بين موسكو والناتو.
- توجيه جزء من الأصول الروسية المجمّدة لأعمال الإعمار.
- رفع العقوبات عن روسيا مع الاحتفاظ بإمكانية إعادة فرضها.
- التزام بعدم نشر قوات للناتو داخل أوكرانيا مستقبلًا.
- عدم نشر مقاتلات أوروبية في بولندا كإجراء دفاعي.
- تثبيت وضع أوكرانيا كدولة غير نووية.
تثير هذه البنود نقاشًا واسعًا بشأن ما إذا كانت تمثل بداية لتسوية عادلة أم صيغة تُحاول تثبيت الأمر الواقع الذي فرضته الحرب.
الواقع الميداني: تقدّم روسي وضغط متزايد على كييف
المشهد العسكري يُظهر تغيرات مهمة، حيث تشير التقارير إلى أن القوات الروسية تحرز تقدمًا على عدة جبهات، أبرزها:
- السيطرة على معظم أجزاء فولتشانسك.
- تحرّكات توحي بوجود ضغوط كبيرة على بعض الوحدات الأوكرانية المحاصرة.
- تحرير أكثر من 230 كم² في دنيبروبتروفسك وزابوروجيا بحسب التقديرات الروسية.
- سيطرة على 13 بلدة إضافية.
- محاولات أوكرانية متكررة لفك الحصار عن قواتها في عدة مناطق.
- ضربات تستهدف منشآت عسكرية وبنى تحتية للطاقة تعتبرها موسكو جزءًا من القدرات القتالية الأوكرانية.
هذه التطورات تشير إلى أن الشرق الأوكراني بات يخضع بدرجة متزايدة للسيطرة الروسية، ما يُعيد رسم موازين القوى التي تقوم عليها أي تسوية مستقبلية.
ردود الفعل الغربية… وانقسام داخل كييف
أدت خطة ترامب، إلى جانب التطورات الميدانية، إلى انقسام واضح داخل الغرب. هناك من يرى أن التسوية باتت ضرورة لوقف استنزاف الموارد، في حين يخشى آخرون أن يُقرأ أي تنازل لروسيا كإشارة ضعف قد تدفعها إلى مزيد من التوسع.
أما في أوكرانيا، فقد ظهرت انقسامات سياسية داخلية أكثر وضوحًا:
- فريق يرى ضرورة التعامل مع المقترحات الأميركية كفرصة لتقليل الخسائر.
- فريق آخر يرفض أي تنازل يُنظر إليه على أنه مساس بالسيادة الأوكرانية.
يتزامن هذا الانقسام مع مخاوف لدى القيادة الأوكرانية من خسارة الدعم الأميركي، الذي ما زال يشكل عنصرًا حاسمًا في استمرار القدرة على مواجهة العمليات الروسية.
العامل الداخلي: أزمة فساد تضغط على صورة كييف دوليًا
تعرضت الحكومة الأوكرانية مؤخرًا لهزة سياسية بعد الكشف عن قضية فساد واسعة في قطاع الطاقة، تورط فيها مسؤولون من مستويات مختلفة.
هذه التطورات أصبحت تؤثر على صورة كييف أمام الرأي العام الغربي، في وقت تعتمد فيه البلاد بصورة كبيرة على المساعدات العسكرية والاقتصادية الخارجية. وقد ساهمت القضية في تعزيز الأصوات الغربية التي تطالب برقابة أكبر، أو بإعادة النظر في حجم وطبيعة الدعم المقدم.
هل موسكو مستعدة لقبول مبادرة ترامب؟
على الرغم من أن المبادرة تتضمن تنازلات أوكرانية لم تكن مطروحة سابقًا، إلا أن موسكو تبدو في موقع يسمح لها بالمطالبة بشروط أشد صرامة، خاصة مع التطورات الميدانية الأخيرة.
من منظور التحليل العسكري–السياسي، يبدو أن روسيا تفضّل—في هذه المرحلة—تسوية تُكرّس المكاسب التي حققتها، وربما تمنحها ضمانات إضافية تتعلق بالأمن الإقليمي، وهو ما يجعل قبولها للخطة مرتبطًا بتعديلات جوهرية.
البعد الاستخباراتي: عنصر حاسم في مجريات الصراع
أحد التطورات اللافتة خلال الأشهر الماضية هو قدرة روسيا على استهداف شحنات أسلحة غربية قبل انتشارها على الجبهات. ومن الأمثلة البارزة الضربة التي استهدفت أنظمة باتريوت فور وصولها.
هذا يشير إلى:
- فعالية المنظومة الاستخباراتية الروسية داخل أوكرانيا.
- قدرتها على تتبع تحركات القوات والأسلحة.
- مستوى متقدم من السيطرة على خطوط الإمداد الحيوية.
هذه القدرة تجعل من الصعب على أوكرانيا استعادة المبادرة، حتى مع استمرار تدفق الدعم الغربي.
الحصيلة الاستراتيجية: خسائر كبيرة وتراجع في الخيارات
- تواجه أوكرانيا اليوم نتائج صراع طويل ومعقّد، من أبرز ملامحه:
- فقدان مساحات واسعة من الأراضي، بما فيها مناطق غنية بالموارد.
- تراجع القدرات الاقتصادية وارتفاع الديون.
- تضرر البنية التحتية الحيوية.
- استنزاف بشري كبير.
- اعتماد متزايد على الدعم الخارجي.
في المقابل، تسعى روسيا إلى تثبيت مكاسبها وتعزيز نفوذها الإقليمي، مستفيدة من الظروف الميدانية والسياسية.
إلى أين يتجه المسار؟
تجمع التطورات الأخيرة بين مبادرة سياسية ذات أبعاد واسعة، وواقع ميداني يميل لصالح موسكو، وانقسامات غربية وأوكرانية داخلية، وضغوط اقتصادية وسياسية متصاعدة.
هذه العوامل تشير إلى أن الصراع يقترب من نقطة مفصلية، قد تنتج تسوية جديدة تُحدّد مستقبل أوكرانيا لسنوات طويلة. ومع ذلك، من المبكر الحديث عن نهاية قريبة، فالمشهد لا يزال مفتوحًا على مسارات متعددة، بعضها يتجه نحو التهدئة، وبعضها قد يقود إلى جولة جديدة من التصعيد.



