
ليس ذنب المسؤول في سوريا – سواء كان وزيرًا أو رئيسًا للجمهورية – أنه يشعر أحيانًا وكأنه تحوّل إلى إله. فصناعة “الإله السياسي” ليست فعلًا فرديًا، بل منظومة اجتماعية كاملة تساهم فيها شرائح متنوعة من المجتمع: من المثقفين الذين يبررون كل خطوة، إلى الجاهلين الذين يرفعون المسؤول إلى مرتبة الأسطورة، وكأن السلطة لا تكتمل إلا بهالة فوق-بشرية تُصنع حول صاحب المنصب.
هذه الفئة من الناس ليست معتادة على رؤية المسؤول كإنسان، أو كموظف عام له حدود وكفاءات ومهام. هم يريدونه رمزًا، قائداً مطلقًا، و“أبًا” يحل مشاكلهم، ويقرر عنهم، ويُحاسب بالنيابة عنهم… والأهم: يتحمل كثيرًا من تبعات أخطائهم الاجتماعية قبل أخطائه هو نفسه.
والغريب أن هؤلاء أنفسهم لا يسألون بعد كل أزمة أو كارثة:
لماذا وصلنا إلى هنا؟ ما دورنا نحن؟ وما الذي رسّخ هذه الذهنية؟
إن تحويل المنصب العام إلى مرتبة قدسية هو أحد جذور المشكلة؛ لأن القداسة تُعطّل المحاسبة، وتُنتج مسؤولاً يرى نفسه فوق النقد، وشعبًا يرى المسؤول فوق البشر. وهكذا تتكرّس دائرة مغلقة من التواطؤ غير المقصود: مسؤول لا يهبط عن العرش، وشعب لا يريد رؤية العرش كما هو—مقعد وظيفة، لا أكثر.
المنصب تكليف… لا تشريف
الحل يبدأ حين يدرك الجميع، شعبًا ومسؤولين، أن المنصب العام ليس وسام شرف ولا امتيازًا اجتماعيًا.
المنصب تكليف لخدمة الناس، لا سلّمًا للمجد الشخصي.
والمسؤول – حتى أعلى سلطة في الدولة—ليس سوى موظف حكومي يعمل وفق صلاحيات واضحة، ويغادر منصبه حين يعجز عن أداء مهامه أو يفشل في خدمة المواطنين.
حين يصبح هذا المبدأ ثقافة عامة، لا نعود بحاجة لتقديس الأشخاص، ولا لتخويفهم أو تأليههم، ولا لخلق هالة لا يمكن المساس بها حول أي مسؤول. تصبح السلطة تداولًا، والكفاءة معيارًا، والمحاسبة سلوكًا طبيعيًا.
—
سوريا لم تكن بحاجة إلى ثورة سياسية فقط… بل إلى ثورة اجتماعية
بصراحة، في سوريا لم تكن الحاجة الأكبر إلى ثورة لإسقاط النظام السياسي بحد ذاته، بقدر ما كانت الحاجة إلى ثورة على المفاهيم الاجتماعية التي سمحت بخلق هذا الشكل من العلاقة بين السلطة والمواطن.
لقد تَسَلَّلت إلى المجتمع مفاهيم خطيرة:
الخضوع غير النقدي.
تقديس القوة.
الطاعة مقابل الحماية.
الصمت بوصفه فضيلة.
والاعتياد على أن “المسؤول يعرف أكثر”.
هذه المفاهيم هي التي صنعت النظام، لا العكس فقط. وهي التي أبقت المسؤول في موقع الإله، وجعلت الشعب في موقع التابع. أي نظام سياسي سينشأ فوق هذه العقلية سيعود لإنتاج النتائج ذاتها، ولو تغيّرت الأسماء والواجهات.
إن الأزمة في سوريا ليست أزمة شخص، ولا أزمة منصب، بل أزمة وعي جمعي.
وحين يدرك المجتمع أن المسؤول ليس إلا موظفًا، وأن المحاسبة ليست إساءة، وأن النقد ليس خيانة، عندها فقط يصبح من الممكن أن نرى دولة تُدار بالمعايير لا بالولاءات، وبالكفاءة لا بالهالة، وبخدمة المواطن لا بحكمه.
الثورة التي نحتاجها—وما زلنا نحتاجها—هي ثورة على الأفكار قبل ثورة على الأشخاص.
فالأوطان لا تتغير حقًا إلا حين يتغير وعي شعوبها.



