زيارة الشيباني إلى موسكو وباكو… بين الهواجس من لقاء باريس والحسابات البراغماتية والنصائح التركية

الصحفي : محمد رائد كعكة

تشهد الساحة الإقليمية تحركات دبلوماسية مكثفة تعيد رسم ملامح الاصطفافات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وفي هذا السياق، تبرز زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى كل من موسكو وباكو، كخطوة تطرح تساؤلات جوهرية حول دوافعها وتوقيتها. فهل جاءت هذه الزيارة استجابة لهواجس متنامية لدى دمشق وأنقرة عقب لقاء باريس الأخير؟ أم أنها انعكاس لبراغماتية سياسية مدروسة مدفوعة بنصائح تركية؟

لقاء باريس وتأثيراته: قلق تركي مشروع

لم يمر لقاء باريس، الذي جمع الشيباني بمسؤولين أميركيين وفرنسيين وإسرائيليين، مرور الكرام في أنقرة. فتركيا رأت فيه خطوة مقلقة تمس بتوازنات النفوذ في سوريا. ويتجسد قلقها في نقطتين رئيسيتين:

خشيتها من تهميش دورها في مستقبل سوريا السياسي.

تصاعد نفوذ ثلاثي واشنطن – باريس – تل أبيب في الساحة السورية.

رداً على ذلك، تحركت أنقرة نحو محور موسكو – باكو، في محاولة لإعادة التوازن وضمان الحفاظ على أمنها القومي، لاسيما في الشمال السوري، إلى جانب تثبيت عمقها الاستراتيجي في القوقاز والبحر الأسود.

زيارة الشيباني: قراءة متعددة الأبعاد

زيارة الشيباني ليست مجرد جولة دبلوماسية تقليدية، بل تأتي في إطار تحرك سوري استراتيجي متعدد الأهداف:

1. اختبار العلاقة مع موسكو

القيادة السورية الجديدة تجد نفسها أمام تحدٍّ كبير في إدارة علاقتها مع موسكو، القوة التي كان لها دور مباشر في قصف المدن السورية عبر سنوات الحرب. ما يطرح أسئلة جوهرية:

هل ستطالب دمشق بتعويضات أو اعتذارات عن الانتهاكات الروسية؟

هل يأتي هذا التقارب بدافع البراغماتية السياسية؟ أم نتيجة ضغوط من حلفاء مثل إيران أو تركيا؟ أم خوفاً من عزلة غربية بعد لقاء باريس؟

ما مصير القواعد الروسية في حميميم وطرطوس؟ وهل ستطرح دمشق ملف تسليم الأسد للمحاكمة على طاولة البحث الدولي؟

هذه الأسئلة تكتسب مزيداً من الزخم بعد أحداث السويداء الأخيرة، والمطالبات بتدخل دولي وإسرائيلي لحماية الدروز، وأحداث 16 تموز/يوليو في دمشق، التي أثارت مجدداً قضية الحماية الدولية ومساءلة النظام.

2. فك العزلة وتوسيع هامش المناورة

تسعى دمشق عبر هذه الزيارة إلى كسر عزلتها السياسية، وفتح قنوات دعم جديدة، سواء اقتصادية أو دبلوماسية، بما يمكّنها من التفاوض من موقع أكثر قوة واستقلالية.

3. تنسيق ثلاثي محتمل: سوريا – تركيا – أذربيجان

في ظل تشابك الملفات الإقليمية، قد تكون هذه الزيارة مقدمة لشراكة ثلاثية جديدة تشمل باكو، التي ستبدأ اعتباراً من 2 آب/أغسطس بتزويد سوريا بالغاز، رغم استمرار مفاوضاتها مع إسرائيل. كما أن القناة الروسية في هذا التحالف قد توفر مظلة دبلوماسية تخفف الضغط الدولي عن دمشق.

4. رسالة غير مباشرة لباريس

تشير زيارة الشيباني إلى موسكو وباكو كتحرك مضاد غير معلن للقاء باريس، تهدف من خلاله دمشق إلى إرسال إشارات واضحة بأنها قادرة على عقد تحالفات مضادة تحفظ لها السيادة والقرار.

روسيا وسوريا: مصالح متشابكة لا تنتهي

من جهة موسكو، فإن استمرار العلاقة مع “سوريا الجديدة” لا يتعلق فقط بدعم نظام حليف، بل يرتبط بجملة من المصالح الاستراتيجية:

الوجود العسكري: الإبقاء على قواعد حميميم وطرطوس كمواقع حيوية لروسيا على المتوسط، تتيح لها التمدد نحو إفريقيا والضغط في معادلات الأمن الإقليمي.

ورقة تفاوض دولية: تحتفظ موسكو بسوريا كورقة سياسية مهمة في مفاوضاتها مع الغرب بشأن ملفات كأوكرانيا وأمن أوروبا.

الاستثمار في إعادة الإعمار: تسعى روسيا لتأمين حصص كبيرة من مشاريع إعادة الإعمار، إضافة إلى عقود في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية.

تركيا ومهمة موازنة القوى

في ظل التحولات المتسارعة، تعمل تركيا على إعادة ترتيب أوراقها من خلال:

تعزيز أمنها القومي: عبر شراكة تكتيكية مع موسكو تضمن ضبط الملف الكردي في شمال سوريا.

إحياء شراكتها مع باكو: كحليف استراتيجي في القوقاز، يوفر دعماً سياسياً وعسكرياً في مواجهة التحالفات الغربية المتنامية.

تفعيل محور “شرق – شرق”: لمواجهة التغلغل الغربي السريع، خصوصاً بعد لقاء باريس الذي أعاد خلط الأوراق.

خاتمة: معركة تموضع في نظام عالمي جديد

زيارة الشيباني إلى موسكو وباكو تتجاوز كونها مجرد تحرك دبلوماسي، بل تمثل جزءاً من معركة إعادة التموضع في بيئة إقليمية تتجه نحو اصطفافات حادة. دمشق تحاول استثمار هذه المرحلة لصياغة سياسة خارجية جديدة تخرجها من عزلتها.

ويبقى السؤال الأبرز:

هل تنجح القيادة السورية الجديدة في كسب ثقة شركاء دوليين دون الخضوع؟ وهل يمكن لروسيا أن تذهب أبعد من دعم النظام، فتقدم اعتذاراً وتعويضاً، في إطار تسوية سياسية شاملة تخدم مصالحها وتعيد تموضعها الأخلاقي في الإقليم؟

الأيام المقبلة ستكشف حجم التحولات المرتقبة. لكن ما بات مؤكداً أن الحياد لم يعد خياراً ممكناً في شرق أوسط يتشكل وفق قواعد نظام عالمي جديد… أكثر صرامة، وأقل تسامحاً مع التردد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى